50 سنة على الاحتلال، وتعميق الضمّ
يوم 6.6.2017 اجتمع أعضاء الكنيست لإحياء الذكرى الـ50 لحرب الأيّام الستّة. جرى تكريس هذا اليوم لمسألة واحدة لا غير: المستوطنات. في اللّجان، ومن على منصّة الكنيست، ناقش أعضاء الكنيست في ذلك اليوم موضوع تعزيز وتوسيع المستوطنات، والعلاقات المتبادلة بين الكنيست والمستوطنين. وكان مجلس “ييشع” (جمعية رؤساء المجالس المحلية والإقليمية اليهودية في الضفّة الغربية وقطاع غزة) شريكًا في هذا الحدث المركزي، وشارك أيضًا في المناقشات داخل اللجان، في حين مُنع أعضاء الكنيست من أحزاب المعارضة من طرح مواضيع بديلة على جدول أعمال الكنيست. وزيرة القضاء، أييلت شَكِد، أعلنت في اليوم الاحتفالي نفسه عن تعليمات جديدة تقتضي بألّا تناقش اللجنة الوزارية لشؤون التشريع مشاريع قوانين حكومية إلّا إذا تناولت طريقة سريان تلك القوانين المقترحة في المستوطنات أيضًا.
تكريس منصّة الكنيست كلّها في السنة الـ50 لدعم المستوطنين، وإقصاء أحزاب المعارضة، يعكس توجّه الحكومة الـ34 منذ باشرت مهامّها، قبل سنتين. من طاولة الحكومة لا يرَون، وبالتالي، على طاولة الحكومة لا يناقشون الآثار السياسية والأخلاقية الخطيرة لمشروع المستوطنات، ولا الانتهاكات المنهجية لحقوق الإنسان التي للفلسطينيين القابعين منذ خمسين سنة تحت حُكم عسكريّ إسرائيلي. قيادات الدولة، ليس فقط لا يهمّها وجود جهازين قضائيّين – منظومتَي قوانين في الأراضي المحتلة، واحد للفلسطينيين والثاني للإسرائيليين، بل هي معنيّة بتعميق وجودهما.
هذا التوجّه أدّى في السنة الماضية إلى فيض من مشاريع القوانين التي تقترح الضمّ المباشر أو غير المباشر، من بينها مشروع قانون لضمّ معليه أدوميم، مشروع قانون لضمّ غوش عتسيون، مشروع قانون القدس الكبرى، مشروع قانون لإلغاء الانفصال عن شمال السّامرة، وغير ذلك. حتى الآن، لم تمرّ هذه المقترحات في أيّ من مراحل عملية التشريع، ولم تحظ سوى بعناوين في وسائل الإعلام؛ ولكن في النتيجة أنشأت قبولاً لفكرة الضمّ لدى الجمهور الإسرائيلي، الذي يُراد له أن يتجاهل أنّ الضمّ جزئيّ فقط – أي ضمّ الأرض دون سكّانها الفلسطينيين.
ذروة عمليّة تسريع الضمّ عبر الكنيست سُجّلت في شباط هذه السنة مع سنّ “قانون التسوية“. هذا القانون “يسوّي” و يُقَوْنِن- يُشَرعن نهب الأراضي الفلسطينية الخاصّة، بهدف إبقاء المستوطنات والمباني التي أقيمت فوقها خلافًا للقانون، وأحيانًا على يد سلطات الدولة. القانون -الذي جرى تشريعه رغم معارضة المستشار القضائي للحكومة– يخرق محظورات قطعيّة في قوانين الاحتلال، تمنع مصادرة الممتلكات سوى لاحتياجات عسكريّة آنيّة؛ كما ينتهك قوانين دولة إسرائيل، بما فيها قوانين أساس. منظّمات حقوق الإنسان بالتعاون مع رؤساء مجالس فلسطينية وأصحاب الأراضي الفلسطينيين رفعت التماسًا لمحكمة العدل العليا يطعن في القانون – وكانت النتيجة أن تمّ تجميد تطبيقه حاليًّا.
يشكّل “قانون التسوية” علامة فارقة، إذ يفتتح مرحلة جديدة في تاريخ الاحتلال: حتّى اليوم تركت الكنيست أمر التشريع المباشر في الأراضي المحتلة للقائد العسكريّ هناك، وذلك بموجب القانون الإنساني الدولي؛ ولكن منذ الآن تمارس إسرائيل سيادتها في الأراضي المحتلّة، وبذلك تقوم بالضمّ غير القانوني والجزئي: أي أنّ أعضاء الكنيست يبتغون ممارسة السيادة في الأراضي المحتلة على نحوٍ يمنح الحقوق والمساواة لليهود فقط، ويُبقي الفلسطينيين تحت الحُكم العسكري – وهذا أمر لا يخطر على البال في دولة ديمقراطية. إنّه تصوّر لـ”السيادة” يقوم على تعمُّد إحاطة حدود الدولة بالغموض والإبهام، على تمييز صارخ وممأسَس وعلى القوّة الفظّة المباشرة. وهو أيضًا تصوّر يلغي قواعد أساسية – مثل سلطة القانون والمساواة أمام القانون، وبالتالي يجري تطبيقه في تجاهل للكوابح التي وُضعت لحماية سلطة القانون والمساواة في دولة ديمقراطية – مثل المحكمة العليا والمستشارين القضائيين. من هنا فإنّ “قانون التسوية” أعدّ عمليًّا ليضع حدًّا لتقديم الالتماسات إلى محكمة العدل العليا ضدّ بؤر استيطانية ومنازل بُنيت في المستوطنات على أراضٍ فلسطينية خاصّة، خلافًا للقانون. إزاء رفض المستشار القضائي للحكومة الدفاع عن القانون أمام محكمة العدل العليا، استأجرت الحكومة محاميًا خاصًّا ليمثّلها أمام المحكمة.
تسريع ضمّ المستوطنات يرافقه بالضرورة تصعيد اضطهاد الفلسطينيين وسلبهم. تشدّد حكومة إسرائيل قبضتها على وجه الخصوص في المناطق التي تبتغي ضمّها – معليه أدوميم، منطقة الأغوار، الخليل وجنوب جبل الخليل – وهي تفعل ذلك بواسطة الجيش: تهدم المنازل، المدارس، الحظائر وآبار المياه؛ تصادر أنابيب وعدّادات المياه والألواح الشمسية التي تستخدمها التجمّعات السكّانية (المضارب) لإنتاج الكهرباء، حيث ترفض إسرائيل ربطها بشبكة المياه والكهرباء؛ تغلق الطرق وسبُل الوصول التي يستخدمها الفلسطينيون؛ وحتى تجري تدريبات عسكريّة في مناطق سكن التجمّعات الفلسطينية. تهدف هذه الممارسات إلى إزاحة الفلسطينيين نحو جيوب في المنطقتين A و-B، وتمهّد الأرض للسيطرة الإسرائيلية التامّة على المنطقة C، التي تشكّل نحو 60% من أراضي الضفة الغربية.
في السنة الماضية ازداد استخدام الأوامر العسكرية بشكل كبير، إذ صدرت لتكون بمثابة “مسار التفافيّ” يتجاوز بُطء إجراءات تطبيق قوانين التخطيط والبناء في الضفة. هكذا، صعّد الجيش استخدام أوامر المصادرة، التي تتيح مصادرة فوريّة للمباني المتنقّلة الجديدة. تجري المصادرة على نحوٍ آنيّ وتُبقي السكّان بلا مأوًى، دون إتاحة استماع ودون أيّ إجراء إداريّ أو قضائيّ يتيح لهم محاولة ردّ القضاء النازل بهم. في الآونة الأخيرة صدر أمر عسكريّ أخطر حتّى، في حقّ تجمّعَي عين الحلوة وأمّ الجمال شماليّ منطقة الأغوار. يعلن هذا الأمر القريتين مساحة مغلقة، ويطالب السكّان بأن يخلوا خلال ثمانية أيّام “أيّة ممتلكات موجودة ضمن المساحة المعلنة”. ولأنّه ليس بمقدور الإنسان أن يسكن في مكانٍ دون أن تكون في حوزته ممتلكات، يصبح الأمر عمليًّا إجراء نقلٍ قسريّ، وهو ما يحظره القانون الإنساني الدولي الذي يسري على منطقة محتلّة. إنّه تفاقُم إضافيّ في السياسة المخالفة للقانون والأخلاق التي تتّبعها إسرائيل تجاه التجمّعات المستضعفة والفقيرة التي تنتشر في المنطقة C. الضمّ في القدس الشرقيّة أيضًا يلازمه سلب الفلسطينيين وإزاحتهم خارجًا. في السنة الماضية واصلت بلدية القدس هدم منازل فلسطينيين بسبب البناء دون ترخيص، علمًا أنّ الحصول على ترخيص أشبه بالمستحيل. السلطات المختلفة (البلدية، الشرطة، وزارة الداخلية، الوصيّ على أملاك الغائبين، وآخرين غيرهم) تتعاون مع جمعيّات مستوطنين لأجل السيطرة على منازل الفلسطينيين وإخراج الفلسطينيين من الأحياء الواقعة في قلب القدس، مثل البلدة القديمة وسلوان، والشيخ جرّاح. وهناك من يحاول إخراج الأحياء التي بقيت وراء جدار الفصل من الحدود البلدية لمدينة القدس.
قيادة الدولة والمستوطنون يكرّرون استخدام لغة حقوق الإنسان والديمقراطية والمساواة لأجل تمرير ضمّ المستوطنات رسميًّا (الضمّ بحُكم القانون “دي يوري”، خلافًا للضمّ الحالي بحُكم الأمر الواقع، “دي فاكتو”) والمطالبة بقانونٍ واحد يسري في المستوطنات وفي إسرائيل السياديّة على حدّ سواء. في السياق المقدسيّ، الاستيلاء على مبانٍ في قلب أحياء فلسطينية يجري تبريره يحجّة كونيّة أو عالميّة الطابع: لكل إنسان الحقّ أن يسكن أينما شاء، بغضّ النظر عن دينه وقوميّته. ولكنّ الحقوق التي تنحصر في جماعة سكّانية واحدة دون غيرها ليست كونيّة أبدًا. أولئك الذين يتلفّظون بكلام منمّق عن حقوق الإنسان مستعدّون للنضال ضدّ أوامر الهدم والاعتقالات العنيفة والتعذيب أثناء التحقيق فقط إذا كان الأمر يخصّ أشخاصًا يهود. من يرفعون باليد الأولى بيرق المساواة يواصلون بيدهم الثانية التمييز الممأسَس في القدس الشرقيّة وتوسيع الفجوة الهائلة بين منظومتَي القانون (عبر جهازين قضائيّين) اللّتين تطبّقهما إسرائيل في الضفة الغربية. الضمّ والاحتلال يرتكزان على تصوّر مشوّه من أساسه لجوهر المساواة وحقوق الإنسان والديمقراطية. في هذه السنة، سنة يوبيل الاحتلال، تعمّق هذا التصوّر وضرب جذورًا.
قطاع غزّة
افتُتحت سنة 2017 في قطاع غزّة بأزمة كهرباء حادّة في ذروة فصل الشتاء. في نيسان توقّفت عن العمل محطّة توليد الكهرباء في قطاع غزّة، على خلفيّة تعارُض الآراء بين السلطة الفلسطينية وقيادة حماس في شأن تزويد الوقود للمحطّة، وفي حزيران قرّر المجلس الوزاري (الكابينِت) السياسي- الأمني في إسرائيل تقليص كميّة الكهرباء التي تبيعها إسرائيل للقطاع. بذلك، تقلّص تزويد الكهرباء، المنخفض أصلاً في القطاع، إلى دورات مدّتها حتّى أربع ساعات كهرباء مقابل 12 ساعة قطع كهرباء. انخفاض تزويد الكهرباء يشكّل خطرًا على حياة الإنسان ويمسّ بالصحّة والبيئة. النقص الخطير في الكهرباء نتج عنه نقص في المياه الجارية، لأنّ ضخّها يتطلّب الكهرباء. النقص في الكهرباء أثّر على مليونَي إنسان يعيشون في قطاع غزّة وألحق الضّرر في جميع نواحي الحياة، من تشغيل الأجهزة الإلكترونيّة البيتية إلى عمل المستشفيات بشكل سليم.
في تمّوز 2017 نشرت الأمم المتحدة تقريرًا تضمّن تكهّنات مروّعة، تقول بأنّه حتى عام 2020 سوف يصبح قطاع غزة مكانًا “لا يليق بسكنى البشر”: تزويد الكهرباء منقوص، مصادر المياه تكاد تكون ملوّثة كليًّا، مياه المجاري تفيض وتلوّث، الخدمات الصحّية وخدمات حيوية أخرى آخذة في الانهيار، والفقر والبطالة يتفشّيان. وفقًا لما نشرته وسائل الإعلام، حتّى جهات عسكرية إسرائيلية حذّرت أكثر من مرّة خلال هذه السنة من أنّ غزّة على شفا كارثة إنسانيّة بسبب الانهيار التامّ لمرافق البنى التحتية المدنية.
بعد عشر سنوات من حصار يصعب احتماله، حصار عزل قطاع غزة وجعل العيش فيه جحيمًا لا يطاق، حدثت في أواخر السنة تطوّرات تبعث أخيرًا بعضًا من الأمل الحذر. بعد أن أغلقت المعابر إلى غزة ومنها طيلة عشر سنوات ردًّا على استيلاء حماس، بدأ نقل المسؤولية عن هذه المعابر إلى السلطة الفلسطينية، وذلك في أعقاب اتّفاق المصالحة الذي وقعته حركتا فتح وحماس. الحدث المهمّ بالنسبة إلى سكّان قطاع غزّة المحاصرين هو إعادة العمل بشكل كامل في معبر رفح، المتوقّعة قريبًا، والتي ستتيح لهم منفذًا إلى العالم. نتمنّى أن يُسهم نقل السيطرة على المعابر إلى يد السلطة الفلسطينية في دفع المساعي الدولية لإعادة إعمار القطاع – بعد ثلاث جولات من القتال مع إسرائيل، أدّت إلى تدمير جميع المرافق والبُنى الآيلة للانهيار أصلاً؛ وبعد عشر سنوات من الحصار مسّت على نحوٍ خطير ومتواصل بحقوق الإنسان الأساسية للسكّان، ومنعت تطوير القطاع وإعادة إعماره.
تطوّر آخر قد يجلب معه تحسينًا للوضع في قطاع غزّة هو إعادة تفعيل لجنة المياه، المشتركة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، بعد أن تعطّل عملها طيلة ستّ سنوات. يُنتظر أن يحدث هذا في كانون الثاني 2017. من المفترَض أن تعمل اللجنة الآن على تقديم تفاهمات حول تطوير مرافق المياه والمجارير في الضفة الغربية وقطاع غزة. إضافة، في تمّوز 2017، وقّعت كلّ من إسرائيل والأردن والسلطة الفلسطينية على اتّفاق “قناة المياه“، الذي سيتيح، فيما سيتيح، بيع 10 مليون كوب ماء لقطاع غزّة.
ولكن، رغم الآمال المعقودة على حدوث تحسينات وتغييرات، من المهمّ أن نذكر حجم المشاكل وعمقها. من قبل الانفصال عن غزة كانت المرافق في القطاع في وضع متدنٍّ بحيث لم تقدر على تلبية احتياجات السكّان الفلسطينيين، فكم بالحريّ توفير ظروف معيشة تلائم القرن الـ21. بعد أربعة عقود من السيطرة المباشرة وعقد إضافيّ من السيطرة غير المباشرة، ما زال قطاع غزة اليوم محكومًا لإسرائيل من حيث خطوط الكهرباء والماء والاتّصالات. كذلك فسكّان القطاع محكومون لإسرائيل ومصر من حيث الخروج من غزّة لتلقّي العلاج، للدراسة، لزيارة الأقرباء وغير ذلك؛ وحتى لأجل الخروج للصّيد ضمن شريط ساحل غزّة. لكي تحدث انعطافة حقيقيّة إلى طريق جديدة، يلزم تغيير كبير في سياسة كلّ من إسرائيل، ومصر والقيادة الفلسطينية.