طيلة خمسة عقود ، منذ حزيران 1967، جرت تشظية الأراضي المحتلة عبر تقسيمها إلى وحدات تقوم فيها نظم حكم مغايرة وتُتّبع طرق سيطرة مختلفة:
القدس الشرقيّة ضمّتها إسرائيل رسميًا منذ البداية، في حزيران 1967. جرى ذلك في مخالفة للقانون الدولي، وأدّى إلى ضبابيّة مستديمة بخصوص هذه المساحة ومكانة سكّانها الفلسطينيين، الذين يشكّلون اليوم نحو 40% من مجمل سكّان القدس. فهؤلاء يسكنون رسميًا ضمن حدود دولة إسرائيل، ولكنهم ليسوا مواطني إسرائيل ولا يتمتّعون بحقّ المشاركة السياسية (الانتخاب والترشيح للبرلمان الإسرائيلي – الكنيست). ورغم أنّه قد جرى تطبيق القانون الإسرائيلي في القدس الشرقيّة، فالواقع أنّ السياسة التي تبلورت هناك تتجسّد في الإهمال المفرط والقمع والتنكيل، وفي الامتناع عن تطبيق القانون الإسرائيلي وحفظ الحقوق الأساسية للسكّان.
في بقيّة المناطق أقامت إسرائيل في حزيران 1967 نظام احتلال عسكري. رفضت الحكومة الإعلان صراحة بأنّ هذه مناطق محتلّة وفقًا لتعريف القانون الدولي. مع ذلك، أعلنت أنّ الجيش هو الذي سيدير هذه المناطق في إطار القانون الإنساني الدولي (“قوانين الاحتلال“)، وتنصّ في الأساس على أنّ: القائد العسكري هو السيّد في المنطقة، من حيث المسؤولية عن النظام العامّ والأمن. وهو مؤتمن على الفلسطينيين السكّان المُحتلين المعرّفين “كسكّان محميّين” وفقًا للقوانين الدولية، وتقع على القائد العسكري مسؤولية الاهتمام بهم وبرفاهيّتهم. والأهمّ
بموجب هذه القوانين: الاحتلال العسكري هو حالة مؤقتة لا أكثر.
ولكنّ الرغبة في الضمّ أنشأت واقعًا مختلفًا تمامًا. حاكم مؤقت؟ مؤتمن على السكّان المحميّين؟ ليس تمامًا. فالجيش مطالَب بتنفيذ سياسة الحكومة في مخالفة فظّة للقانون الدولي الذي ينظّم سيطرة الجيش في الأراضي المحتلة.
إقامة المستوطنات أدّت إلى نشوء “جزر إسرائيلية” في الأراضي المحتلّة، وجرى ربط هذه المستوطنات بإسرائيل بواسطة شبكة طرق ومواصلات منفصلة. لقد موّهت المستوطنات الفرق بين إسرائيل ذات السيادة والمناطق التي تحتلّها إسرائيل. ما أتاح ذلك هو إقامة منظومتين قانونيّتين منفصلتين – واحدة للإسرائيليين وأخرى الفلسطينيين (يُنظر فصل 3). عندما تقوم في الأراضي التي يسيطر عليها الجيش نُظم قانونية منفصلة تبعًا للقومية وتميّز بشكل فظّ ضدّ السكّان المحميّين، هل يُعتبر هذا احتلالاً أم سيادة؟
بدلاً من القيام بواجب الاهتمام بالسكّان المحلّيين الواقعين تحت الاحتلال، خُصّص الجزء الأكبر من مهمّات الجيش في المناطق المحتلة للدفاع عن أمن المستوطنين، توسيع المستوطنات واتّخاذ خطوات تسهّل لضمّ الأراضي المحتلة . تحت ذريعة الاحتياجات العسكرية سيطرت إسرائيل على مناطق واسعة بينما أخرجت السكّان الفلسطينيين خارجها وفرّغتها من التواجد الفلسطيني. بمرور السنين نشأت في الضفة الغربية وقطاع غزّة مساحات كاملة يُمنع على الفلسطينيين التنقّل أو السكن فيها، أو يتاح ذلك ضمن قيود. مما أدى إلى أن ينظر كثير من الإسرائيليين إلى هذه المناطق على أنّها “إسرائيلية”، لا “فلسطينية”.
جدار الفصل عمّق هذه السيرورة. ولأنّ مساره لا يطابق الخطّ الأخضر، يُنشئ جدار الفصل جيوبًا ومناطق يُمنع الفلسطينيون من دخولها. “منطقة التماسّ“، الواقعة غربيّ الجدار، شهدت الكثير من الأوامر العسكرية التي قلصت من دخول الفلسطينيين إليها – سواء لأغراض السكن أو فلاحة الأرض.
في القدس، عزل الجدار الفاصل أكثر من رُبع سكّان القدس الشرقيّة عن بقيّة أجزاء المدينة. السلطات الإسرائيلية وضمنها بلدية القدس تتنصّل من مسؤولياتها الأساسية تجاه السكّان رغم أنّهم ظلّوا رسميًا جزءًا من المدينة. بين الحدود البلدية الرسمية للقدس التي ضُمّت والحدود المادّية/ الفعلية التي فرضها الجدار نشأت مساحة لا تتبع لأي جهة رسمية على أرض الواقع، وتسمّى “أرض محرّمة” (no man’s land) يسكنها فلسطينيون فقط؛ وبين الخطّ الأخضر ومسار الجدار على امتداد الضفة الغربية نشأت جيوبٌ “إسرائيلية” يتقلّص تدريجيًا عدد الفلسطينيين القاطنين فيها.
اختلف طابع سيطرة إسرائيل في المناطق المحتلة في أعقاب إقامة السلطة الفلسطينية ضمن اتفاقيات أوسلو، التي قلّصت نوعًا ما من صلاحيّات الجيش في بعض المناطق. أصبحت وزارات الحكومة الفلسطينية هي المؤتمنة على الحياة اليومية للسكّان في المنطقتين المصنّفتين “أ” و”ب” (وتبلغ مساحتهما نحو 40% من الضفة الغربية) وعلى تقديم بعض الخدمات في المنطقة المصنّفة “ج”. ولكنّ سيطرة إسرائيل التامّة على المنطقة “ج” (نحو 60% من الضفة الغربية) تُبقي في يدها مفاتيح تطوير احتياطيّ الأرض وموارد الطبيعة في الضفة كلّها. التفوّق العسكريّ الحاسم يتيح لإسرائيل أن تفعل ما يحلو لها في أنحاء الضفة وأن تستمرّ في سلب مناطق استراتيجية من أيدي الفلسطينيين.
في قطاع غزّة، واقع الحكم العسكري وإقامة المستوطنات، الذي نشأ بعد 1967، اختلف جذريًا في أعقاب خطّة الانفصال أحادية الجانب من قبل إسرائيل وإخلاء المستوطنين في صيف 2005 وسيطرة حماس على القطاع بعد ذلك بوقت قصير. يسود اليوم فصلُ حادّ بين الضفة وقطاع غزة، الذي تحوّل إلى سجن كبير يقبع داخله مليونا إنسان. ولّدت سيطرة حماس وضعًا من العدائية المستمرّة بين إسرائيل والقطاع أدّت إلى ثلاث جولات من القتال.
حتّى بعد الانفصال عن قطاع غزّة أبقت إسرائيل في يديها السيطرة على حواجز القطاع – البرّية والبحرية والجوّية، وكذلك على الجمارك، وحتى على تسجيل السكّان. لهذه السيطرة إسقاطات جدّية على حرّية تنقّل وحركة سكّان القطاع، كما على إمكانيّة إحقاق حقوقهم الأساسية كالتعليم والصحّة، وأيضًا على فرص التطوير وعلى الوضع الاقتصاديّ في القطاع. وفيما تدّعي إسرائيل أنّها قد خرجت من قطاع غزّة، وبذلك يكون الاحتلال قد انتهى، تعتقد منظمّات حقوق الإنسان أنّ قوانين الاحتلال لا تزال تُلزم إسرائيل خاصة في المجالات التي لا تزال تقع تحت السيطرة الإسرائيلية.
المناطق المحتلّة اليوم مشظّاة أكثر من أيّ وقت مضى، وتنقسم إلى: قطاع غزّة، المستوطنات، مناطق “أ” و”ب” و”ج”، “منطقة التماسّ”، غور الأردن والخليل – المقسّمة هي أيضًا، القدس المضمومة، وجُزؤها الذي أُبقي وراء الجدار – وفي كلّ من هذه الأقسام نظام سيطرة مختلف ومنظومات قوانين مغايرة. التشظية المادّية والقضائية للأراضي المحتلة، مع تلاشي حدود دولة إسرائيل ونظامها الديمقراطيّ، أدّت إلى انتهاكات فادحة لحقوق الإنسان الفردية والجماعية لسكّان الأراضي المحتلة.